فصل: أوجه البيان في قوله تعالى: {ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.أوجه البيان في قوله تعالى: {ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله}:

وهذا حكم جديد متوجه إلى الكاتب، وليس إلى المتداينين، وحمله البعض على الوجوب والفريضة: فرضية عين على الوجوب، وآخرون على أنه فرض عين إذا لم يكن في البلدة غيره، فإذا كان فهو واجب على الكفاية، وحمله البعض على الوجوب حال فراغه.
والسؤال الذي يلح على العقل هنا هو: ما وجه توجيه النهي إلى الكاتب، وإشراكه في زمرة المتعاملين؟
إن الجملة تجعل الكاتب فردًا من أفراد هذه المعاملة، حيث تشرط عليه، وتلزمه، وتأمره بالكتابة الحقّة، والكاتب في الواقع أجير يُستدعى لكتابة جميع المعاملات التي يُطلب فيها التوثق بالكتابة والإشهاد، ولا أرى أن هناك خلافًا في أخذ الأجر؛ لأن الكتابة عمل وحرفة يجوز أخذ الأجرة عليها، وهذا ما نص عليه القرطبي؛ حيث يقول: لو كانت الكتابة واجبة ما صح الاستئجار بها؛ لأن الإجارة على فعل الفروض باطلة، ولم يختلف العلماء في جواز أخذ الأجرة على كتب الوثيقة.
وكلام العلماء في الوجوب والندب والإرشاد بعيد- كما أرى- عن سياق الآية؛ لأن المطلوب من الكاتب ليس الكتابة العامة، وإنما كتابة خاصة، موصوفة بقوله: {كما علمه الله}، وعلى هذا فالنهي ليس متوجهًا إلى عموم الكتابة، وإنما النهي متوجه إلى هذا القيد؛ فالكاتب ليس منهيًا عن الإباء عمومًا، ولكن النهي توجه إليه عند كتابته، ومباشرته الفعل؛ بمعنى: أن الكاتب إذا أخذ في الكتابة قيل له: لا تأب أن تكتب كما علمك الله؛ لأن الخطر ليس متوقَعًا إن أبى الكاتب مباشرة الكتابة، بل العكس هو الصحيح؛ لأنه سيوقف هذه المعاملة، ويرد المال إلى صاحبه، ويعيد السلعة إلى صاحبها، ولكن الخطر يُتوقع إن كتب الكاتب كتابةً تضيع معها الحقوق، تلك هي الخطورة، وهو ما حذرت منه الآية فنهت الكاتب- ليس الإباء عن الكتابة- بل عن عدم الكتابة الحقّة الموصوفة بقوله: {كما علمه الله}، وفرق كبير بين الأمرين.
ولعل أفعال الكثير من المحامين، وهم الذين يكتبون العقود في زماننًا غالبًا، لعل أفعال الكثير منهم في بنود تلك العقود، وتغيير بعض الصيغ في العقد، وإضافة أو حذف بعض الكلمات مما يفوت الفرصة على صاحب الحق عند مطالبته بحقه، لعل كل ذلك يشرح لنا المقصود من النهي.
وكم من حقوق ضاعت بسبب هذه الثغرات التي تضمنتها تلك العقود؛ لذا أدخلت الآية الكاتب في زمرة هذه المجموعة- مجموعة الدين- حيث ناله قسط وفير من الزجر والتهديد؛ لتوقُّف ثبوت أو ضياع الحقوق على كتابته، أدخلته لأن عليه عبئًا كبيرًا مادام قد رضي الكتابة.
وعليه؛ فالأمر المفهوم من قوله: {ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله} لا يحتمل إلا وجهًا واحدًا وهو أنه فرض عين؛ لأن ضد ذلك يعني أنه خان الأمانة، وكتب ليس كما علمه الله، وتلك جريمة تضيع بسببها الحقوق، ويشيع بسببها الفساد.
وقد توجه النهي إلى صيغة الغائب {لا يأب}، والأصل في النهي أن يكون لمخاطب، لكن لما كان الكاتب حاضرًا في السياق من خلال قوله تعالى: {فاكتبوه}، وقوله تعالى: {وليكتب بينكم كاتب} صح أن يُسند النهي إليه بعد حضوره البارز من قبل.

.الصورة التشبيهية في هذه الجملة:

يرى بعض العلماء أن الكاف هنا للتعليل، ويقول: {كما علمه الله}؛ أي: لأجل ما علمه الله تعالى من كتابة الوثائق، وتفضل به عليه، وهو متعلق ب {يكتب}، والكلام على حد قوله: {وأحسن كما أحسن الله إليك}، أي: لا يأب أن يتفضل على الناس بكتابته، لأجل أن الله تعالى تفضل عليه وميَّزه.
والقول بدلالة الكاف عمومًا على التعليل قليل عند النحاة وقيده جماعة بأن تكون الكاف مكفوفة بما نحو: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ} [البقرة:151].
ونحو: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة:198].
وهؤلاء لم يقولوا بأنها للتعليل في- كما علمه الله-: لأن ما مصدرية.
والذي أميل إليه: أن الكاف هنا ليست للتعليل، حتى وإن توقف ما قبلها على وجود ما بعدها؛ لأن السياق ليس سياق منٍّ وتفضُّل على الكاتب، بل سياق أمر ونهي، بأن يكتب كتابةً موثقة ضامنة للحقوق، خالية من الثغرات؛ فالأولى في هذا السياق تذكيره بهذه الضوابط، وتلك الشروط التي تعلَّمها؛ حتى يجعلها في ذهنه عند الكتابة، ثم يجعل ما يكتبه مطابقًا ومشابهًا لما تعلمه.
وعلى هذا، ففي الجملة تشبيه، وهذه أركانه:
المشبه: الكتابة المأمور بها.
المشبه به: الكتابة التي علمه الله إياها.
والأداة: الكاف.
ووجه الشبه: الدقة والعدل، وذكرُ اسم الذي عليه الحق دون غيره، وتحديدُ قيمة الدين، وموعد أخذه ومكانه وزمانه، ثم تحديد صاحب الحق، وموعد السداد، وزمانه ومكانه، وغير ذلك مما تعلمه من أمور تحفظ الحقوق لأصحابها.
وجمال هذه الصورة ينبع من عدة أشياء:
منها: التذكير بنعمة الله تعالى على الكاتب؛ حيث جعل ذلك جزءًا من الصورة، ومن خطوطها الأساسية، ليكون ذلك دافعًا له، ومحرضًا، وحاجزًا عن الميل إلى شهوات الدنيا، بالميل إلى طرف على حساب طرفٍ آخر.
ومنها:الإشارة إلى الدقة العالية، والالتزام الشديد بضوابط الكتابة؛ لأنها منسوبة إلى الله تعالى: {كما علمه الله}.
ومنها: حثُّ الكاتب على إخراج هذه الوثيقة في أبهى صورة؛ لأن الله تعالى كتب الإحسان على كل شيء.
ومنها: الترهيب من مخالفة الأصول، والقواعد الضابطة للحقوق، وذلك من خلال استعمال اسم {الله} تعالى، الباعث على الرهبة؛ ولذلك لم يقل: كما علمه ربه.
ومنها: الإشارة إلى أن ضبط هذه المعاملات لا يكون إلا بما شرعه الله تعالى وحدده، وأن العدول عما أنزله الله تعالى يحمل الفساد، والإفساد للبشرية جميعًا.
كما أن من خيوط هذه الصورة التشبيهية تنكير كلمة {كاتب} لتعميم الحكم على كل من تصدى لهذا الأمر، حتى وإن دان بغير الإسلام.
يقول أبو حيان: وكاتب نكرة في سياق النهي فتعمّ.
كما أن في اصطفاء هذا اللفظ كاتب تذكيرًا للكاتب بأن منفعته، وسمعته، ومصداقيته في هذا العمل مرتبط بالعدل، والإنصاف؛ ولذلك لم يقل: ولا يأب مؤمن، أو مسلم، وإنما قال: كاتب، وكأنه معروف بين الناس بمهنته، فإذا جار أو ظلم، أو مال إلى واحدٍ دون الآخر، فإن مهنته سوف تكون محل تهمة من الناس، فلن يكون كاتبًا، بل سيصبح مخادعًا، وسيشتهر بين الناس بقلة ضبطه، أو فساد عمله؛ فكأن كلمة كاتب تحذير له بأن مهنته وعمله، ودوام ذلك مرهون بعدله، وضبطه للكتابة، وهذا واضح.
أما اصطفاء المصدر المؤول- ولا يأب كاتب أن يكتب- دون الصريح،- كتابته- فلأن الكاتب يراعِي مقام كل حالة، ويعرف الشروط الضابطة لكل نوع، ولمَّا كانت أنواع المداينات ذات أوصاف مختلفة كان الإلمام بكل حالة، وضوابطها على حدة من لزوميات الكاتب، وهذا يتواءم مع المصدر المؤول الدال على التغير، والتجدد والحدوث،وكل ذلك مفهوم من المضارع {يكتب}، أما لو قيل: ولا يأب كاتب كتابة ما علمه الله، لظُنّ أن هناك صيغة واحدة لجميع العقود، ولَحفظها الجميع، ولاستُغني عن الكاتب، وهذا بعيد.
إذ إن لكل نوع ما يناسبه من صيغ، كما أن لكل حالة ما يتوافق معها من شروط، وضوابط، وأحوال تخالف غيرها.
ومع أن الفعل- يكتب- متعدّ إلا أن مفعوله حذف لدلالة السياق عليه.
وختام الجملة يحمل من التفضّل والتشريف للكاتب الكثير؛ ذاك لأن الجملة جعلت عملية التعليم مباشرة من الله تعالى، فهو كالأنبياء من حيث دوره في الإصلاح، فإذا كان الأنبياء يصلحون عقائد الناس وعبادتهم، فإن الكُتّاب يصلحون أنواع المعاملات بين الناس، والتي قد ينشأ عنها خلاف أو نزاع.
أضف إلى ذلك: أن اسم الله تعالى في قوله: {كما علمه الله} يحمل من الرهبة والزجر ما يجعل الكاتب يلتزم، كما أنها تشير إلى أن العدول عن هذه الضوابط إساءة إلى هذا العلم، ومن بعد ذلك إساءة إلى المعلم سبحانه وتعالى.
وبعد:
فإن هذه الجملة تسير في الطريق نفسه الذي بدأ بوضع القيود، والعوائق أمام هذا النوع من المعاملات، حتى لا يلجأ إليها إلا المضطرون، لما يترتب عليه من حرج، ومن خلاف متوقع بين الناس، فلا توجد نفس سوية تحب أن يكون لها أو عليها حق لأحد، وبخاصة الحقوق المالية، لذلك كثرت الأوامر والنواهي والشروط المعرقلة لهذه المعاملات، ليكون سبيلها سبيلًا حَزَنًا ينبغي ويحسُن تجنبه، وهذا هو الأقرب إلى الفهم.

.الكناية في جملة: {كما علمه الله}:

إن جملة- كما علمه الله- تعني أن يكتب ما يعتقده، ولا يحجب، ولا يواري؛ لأن الله تعالى ماعلَّم إلا الحق، وهو المستقرّ في فطرة الإنسان، وإنما ينصرف الناس عنه بالهوى، فيبدلون، ويغيرون، وليس ذلك التبديل بالذي علمهم الله تعالى، وهذا يشير إليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «استفت نفسك، وإن أفتاك الناس».
وهذا يفيد أن جملة: {كما علمه الله} جملة كنائية، فهي كناية عن موصوف، وهو الحق الذي ودعه الله تعالى في فطرة كل إنسان، لكنه عبّر عن هذا الحق بتاليه، ورادفه، وهو: ما علمه الله؛ لأن الله تعالى حين خلق الحق أودعه في نفوس البشر؛ ليكون مرجعًا، وملاذًا يلوذ به الناس حين تختلط المعايير.
ودمج الصورة التشبيهية بالصورة الكنائية تشعر الكاتب بفضل الله تعالى عليه، ورفع قدره بهذا العلم الذي لا يجيده كل أحد؛ مما يستوجب عليه شكر هذه النعمة بإعطاء الحقوق والمواثيق كل العناية؛ حتى تخرج في صورةٍ يرضى عنها الله تعالى.
اجتماع الأمر والنهي على الكتابة:
جاء بعد قوله تعالى: {ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله} قوله تعالى: {فليكتب}.
وفي المصحف الشريف وضعت علامة الوقف الجائز دون ترجيح، بعد قوله: {كما علمه الله} وهي ج.
والنظم يحتمل صورةً أخرى، وأداءً آخر، ويكون بقراءة الجملتين هكذا: ولا يأب كاتب أن يكتب، كما علمه الله فليكتب ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله، فليكتب.
ففي الصورة الأولى: الجملتان محمولتان على شبه كمال الاتصال، فلما قيل: ولا يأب كاتب أن يكتب.
قيل: كيف؟
فأجيب: كما علمه الله فليكتب.
والصورة الثانية تشير إلى أن جملة: {فليكتب} تفريع لتوكيد الأمر المفهوم من قوله: {ولا يأب كاتب}.
والمعنى العام لا يرفض أيًا من الصورتين، لكن الذي يلفت الانتباه أن جملة: {كما علمه الله} وقعت واسطة بين الأمر، والنهي، ولنرجع النظر مرة أخرى: {ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب}؛ فالأمر والنهي متعلقان بجملة التشبيه؛ إذ هي محط النظر، ولب القصد، والغاية من الأمر والنهي.
فالكاتب مأمور بالكتابة، ليست أي كتابة، بل مأمور بالكتابة كما علمه الله.
والكاتب منهي عن الإباء عن الكتابة، ليست أي كتابة، بل هو منهيٌ عن عدم الكتابة التي علمه الله إياها.
وهذا يعني: أن الجملتين- جملة الأمر وجملة النهي- تتوجهان إلى شيء واحد، وهو إلزام الكاتب بنوع خاص من الكتابة، وموصوف بأنه على وفق ما أنزله الله وبينه.
ويبقى سؤال هنا، وهو: لم تقدم النهي على الأمر؟
والذي يظهر لي أن النهي عن الشيء أقوى في الدعوة إلى الاعتصام منه، وإلى مجانبته، من الأمر بنقيضه.
ولذلك جاء في الحديث: «إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم».
والقاعدة الأصولية تقول: إن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
فلما كان الضرر الواقع من الكتابة الباطلة ضررًا بالغًا نُهِىَ عنه أولًا، كما أن تقديم النهي آنس بالسياق المفعم بالقيود، والعراقيل الزاجرة عن التساهل في توثيق تلك العقود.